بَابُ مِيرَاثِ المُطَلَّقَةِ


بَابُ مِيرَاثِ المُطَلَّقَةِ

مَنْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ غَيْرِ المَخُوفِ وَمَاتَ بِهِ، أَوْ المَخُوفِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ لَمْ يَتَوَارَثَا بَلْ فِي طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهُ، ......
سبق أن من أسباب الإرث: النكاح، فإذا كان له زوجة وطلقها، فهذا لا يخلو من أحوال يذكرها المؤلف.
قوله: «من أبان زوجته في صحته أو مرضه غير المخوف ومات به، أو المخوف ولم يمت به لم يتوراثا» إذا أبان زوجته، أي: طلقها طلاقاً بائناً كالطلاق الثلاث، والفسخ بعيب وما أشبه ذلك، في صحته فإنه لا توارث ولو كان في العدة؛ لأنها بانت منه، فلو مات لم ترثه وإن ماتت لم يرثها.
وقوله: «أو مرضه غير المخوف» المرض نوعان: مرض مخوف، وهو الذي إذا مات منه الإنسان لم يقل الناس شيئاً؛ لأنه صار عادة أن يموت به الناس، وغير المخوف هنا الذي يرجى برؤه، فما كان سبباً للموت عادة فهو مخوف وما لا فلا، مثال المرض غير المخوف: إنسان يؤلمه سِنُّهُ، أو عينه، أو جرح فيه، أو زكام، هذه أمراض غير مخوفة، فإذا طلقها في هذا المرض طلاقاً بائناً، ثم اشتد به المرض ومات، فإنها لا ترث؛ لأنها بانت منه في حال لا يتهم فيها بمنع الإرث.
وقوله: «أو المخوف» أي: مرضه المخوف الذي مات به ولم يستنكره الناس، مثل الحمى الشديدة، أو ذات الجنب، وفي عصرنا هذا انتشر داء السرطان، وفي الأول كان السِّل، المهم الأمراض التي لو مات بها قال الناس: هذا سبب، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: المرأة التي يأخذها الطلق مرضها مخوف مع أنه لا يكثر فيه الموت، لكن لو ماتت بالطلق قال الناس: ليس هذا بغريب.
وقوله: «أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا» لو أن إنساناً مريضاً مرضاً مخوفاً بذات الجنب ـ مثلاً ـ فخاف أن يموت به، فطلق زوجته لئلا ترث، ثم عافاه الله وانتهت عدتها ثم مات بعد ذلك فإنها لا ترث؛ لأنه برئ من المرض، وهذه المسألة تحتاج إلى تحرير؛ لأن كونه طلقها في مرض موته المخوف واضح أنه أراد الحرمان، فإذا شُفِيَ ثم عاد المرض ومات ففي حرمانها نظر؛ لأن التهمة قائمة.
قوله: «بل في طلاق رجعي لم تنقض عدتُه» الطلاق الرجعي هو الذي يملك الزوج فيه مراجعة الزوجة بدون عقد، فهذا إنسان طلق زوجته في حال صحته طلاقاً رجعياً، ثم مات وهي في العدة فإنها ترث منه، ولو ماتت هي يرث منها؛ لأن الرجعية في حكم الزوجات، بل سمى الله ـ تعالى ـ الزوج المُطَلِّق بعلاً فقال ـ جلَّ وعلا ـ: {{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}} [البقرة: 228] ، فلو قال قائل: هذا باعتبار ما كان، نقول: الأصل حمل اللفظ على ظاهره، ولا يمكن أن نقول: باعتبار ما كان أو باعتبار ما يكون إلا بدليل، قال الله تعالى: {{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}} [النساء: 3] ولا يمكن أن نؤتيه ماله إلا إذا بلغ، وسماهم الله أيتاماً باعتبار ما كان، نقول: لكن هذا فيه دليل، وفي سورة يوسف ـ عليه السلام ـ قال أحد صاحبي السجن: {{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}} [36] ، وهو يعصر عنباً، لكنه خمر باعتبار ما يكون، فنقول: إذا قال قائل: {{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}} باعتبار ما مضى، نقول: لا، فالأصل حمل الكلام على ظاهره،، فإذا مات المطلق طلاقاً رجعياً في العدة ورثته الزوجة، وإن ماتت ورثها الزوج؛ لأنهما لا زالا على الزوجية، ولهذا قال المؤلف: بل «في طلاق رجعي لم تنقضِ عدته» ، فإن انقضت العدة، تَبِينُ منه ولا توارث.
لو قال قائل: لو طلقها طلاقاً رجعياً في مرض موته المخوف ومات به ترث؛ لأنها لم تنقضِ عدتها، فإن انقضت العدة لا ترث، ولو أبانها في المرض وانقضت العدة ومات فإنها ترث، نقول: هذه المسألة قد يُظن أن الأمر خلاف ذلك، فرجل طلق زوجته في مرض موته طلاقاً رجعياً، وانقضت العدة ثم مات لا ترث، ورجل طلق زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته المخوف ومات بعد انقضاء عدتها فإنها ترث، وقد يبدو للإنسان في بادئ الأمر العكس، فيقال: لا؛ لأن البائن إذا بانت ترث منه من حين الطلاق؛ لأنه متهم، والرجعية ينقطع ميراثها بانقطاع العدة، وفي هذه المدة ربما تموت هي ويرثها، والبائن لو ماتت لا يرثها، هذا هو الفرق.
إذاً حد إرث المطلقة الرجعية انقضاء العدة، سواء كان طلاقها في المرض أو في الصحة، وهنا نقول: يجري التوارث بينهما، الزوج يرث منها وهي ترث منه، ولهذا قال: «بل في طلاق رجعي لم تنقضِ عدته» .

وَإِنْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ المَخُوفِ مُتَّهَمَاً بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا، أَوْ عَلَّقَ إِبَانَتَهَا فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَرَضِهِ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ لَهُ فَفَعَلَهُ فِي مَرَضِهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرِثُهُ فِي العِدَّةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ تَرْتَدَّ.
قوله: «وإن أبانها في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها» فإنه لا يرثها، وترثه هي معاملة له بنقيض قصده؛ لأن الحيل لا تبطل الحقوق.
وقوله: «متهماً بقصد حرمانها» ، إذا لم يتهم فإنها لا ترث منه من حين البينونة، مثال الذي لم يتهم: امرأة لما رأت زوجها اشتد به المرض ـ مثلاً ـ طلبت الطلاق فطلقها فهذا غير متهم؛ لأنها هي التي طلبت، وإذا كانت هي التي طلبت فلا تهمة.
قوله: «أو علق إبانتها في صحته على مرضه» قال الرجل وهو صحيح لزوجته: إذا مرضت مرض الموت فأنت طالق، فإنها ترث؛ لأنه متهم.
قوله: «أو على فعل له ففعله في مرضه ونحوه لم يرثها» قال: إن كلمتُ زيداً فأنت طالق، فلما مَرِض الرجل مرض الموت كلم زيداً، فإنها تطلق على المذهب، فإن المذهب لا فرق بين الحلف والطلاق، وهو متهم؛ لأنه فعل ما تطلق به في مرض موته فلا يرثها.
ولو علقه على فعل لها فَفَعلَتْهُ في مرضه، ففيه تفصيل، إن كان هذا الفعل لا بد لها منه شرعاً أو حساً فإنها تطلق وترث؛ لأنها لا بد أن تفعل، فلو قال: إن صَلَّيْتِ الظهرَ فأنت طالق وجاء وقت الظهر وجب أن تصلي فصلت، تطلق وترث، ونقول: هذا الفعل لا بد لها منه شرعاً وهو بغير اختيارها في الواقع، أو قال لها: إن أَكَلْتِ غداء أو عشاء أو فطوراً فأنت طالق، فلو أكلت تطلق وترث؛ لأنه لا بد لها من ذلك، لكن لو قال: إن أكلت الأرز فأنت طالق، فلما مرض أكلت الأرز، هذه تطلق ولا ترث؛ لأن لها بداً منه، إذ يمكن أن تأكل بدل الأرز خبز بر أو تمراً أو ما أشبه ذلك.
قوله: «وترثه في العدة وبعدها» أي: المطلقة في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها، فترثه البائن في العدة وبعد العدة؛ لأنه متهم، وكل من حاول إبطال حق مسلم فإنه يعامل بنقيض قصده، وهو لا يرثها، وبعد العدة ـ أيضاً ـ لأنه لا أثر للعدة هنا؛ إذ إن العدة عدة بائن لا تؤثر.
قوله: «ما لم تتزوج» لأنها إذا تزوجت لا يمكن أن ترث زوجين، إذ لو قلنا: بأنها ترث بعد الزواج، لكان معناه أنها ترث من الزوج الأول ومن الزوج الثاني، وهذا لا نظير له في الشرع، ثم إنها إذا تزوجت فإنها بتزوجها قطعت العلاقة بينها وبين الزوج الأول نهائياً.
قوله: «أو ترتد» كذلك إن ارتدت ـ والعياذ بالله ـ فإنها لا ترث؛ لأنها أتت بمانع من موانع الإرث باختيارها.

ليست هناك تعليقات

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

يتم التشغيل بواسطة Blogger.