الإمام مالك بن أنس نشأته ومكانته ومحنته مع الوالي

محنة الإمام مالك بن أنس


بين يدي المحنة:
هذه المحنة - مثلما سنذكر في حديثنا عن محنة الإمام البخاري رحمه الله - محنة قديمة جديدة، حيث ما زالت أمثالها وأضرابها تقع كل يوم، ولا يخلو منها عصر ولا جيل، وقل من يسلم من التلوث بأدرانها، ومحنة الإمام مالك - وإن كانت تختلف في فصولها عن محنة الإمام البخاري، إلا أنها أيضاً محنة قديمة جديدة، وما زالت تقع كل عصر وجيل، ولكن بأسماء ومواقف مختلفة، فمحنة الإمام مالك تتعلق بالدور المنوط لعلماء الأمة في بيان الحق، وتعليم العلم، وإرشاد الناس، خاصة وقت النوازل، والصبر على المكاره، واحتمال المشاق والصعاب من أجل إظهار العلم وعدم كتمانه في ظل تهديدات السلطة الحاكمة، وطلبها الدائم بكتمان هذا العلم الذي قد يمثل إحراجًا وضغطًا على هذه السلطة، كما أن للحسد والحقد دور بارز في أحداث المحنة التي تعرض لها الإمام مالك رحمه الله، وهذه هي أحداث وفصول هذه المحنة الأليمة.

نشأة الإمام مالك ومكانته:
 كان مولد الإمام مالك بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم  التسليم، وهي مهبط الوحي، ودار الهجرة، ومعدن الرسالة، وفيها ظهر الحق، وقامت الدولة، ورفع منار الدين وانتشر، ومنها فتحت البلاد، وتواصلت الأجداد، وبها مثوى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيها البقيع: حيث رقد معظم أصحابه، والأخيار من المهاجرين الأولين، والأنصار المباركين، وفي المدينة كان الحق ناصعًا، والدين خالصًا، وعلى أنقابها ملائكة تحرسها حتى لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وفيها الفقهاء السبعة المشهورين، ولم يزل الدين بها قائمًا، والسنة معلومة، والعلماء متوافرون، وفي هذه البيئة الإيمانية والعلمية الخالصة ولد الإمام مالك، ونشأ وشب وترعرع، وبين جنباتها شق طريقه نحو حلق العلم والحديث، وجلس لأساطين العلم وقتها، وكان مالك غلامًا عاقلا، حافظًا ثبتًا، ضابطًا متقنًا برًا تقيًا، وقد جلس لابن هرمز عالم المدينة سبع سنين كاملة تأثر خلالها مالك بأستاذه ابن هرمز كل التأثر، ثم جلس لربيعة الرأي، ونافع مولى ابن عمر، وحمل عنه ثمانين حديثًا، وعرفت روايته عنه - مالك عن نافع عن ابن عمر - بالسلسلة الذهبية، ودار مالك على علماء زمانه، وسمع منهم، وما زال مالك يرتقي في سلم العلم حتى درج إلى عليائه، وصار إمام دار الهجرة، وعلمها المقدم، تضرب إليه أكباد الإبل من أقصى الأرض لسماع علمه، ونقل فتاواه ومسائله وآراءه، وحمل كثير من العلماء الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإِبلِ يَطْلُبُونَ العِلْمَ فَلا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمُ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ )) على الإمام مالك؛ حيث إنه لم يغادر المدينة أبدًا إلا للحج، وهو الذي كانت تأتيه طلاب العلم من كل مكان، وهو في المدينة لا يخرج منها، بل حاول عدة خلفاء من بني العباس: كالمهدي والرشيد إقناعه بالإقامة في بغداد، وهو يأبى عليهم، ولا يرى غير المدينة قصرًا ومقرًا.

وقد أثنى عليه كبار الأئمة: مثل الشافعي الذي كان يصف الإمام مالك بالنجم الثاقب، وقال عنه: لم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم: لحفظه، وإتقانه، وصيانته، وقد جعلت مالكًا حجة بيني وبين الله عز وجل.

وقال عنه أحمد بن حنبل: القلب يسكن إلى حديثه، وإلى فتواه، حقيق أن يسكن إليه، مالك عندنا حجة لأنه شديد الاتباع للآثار التي تصح عنده.

وقال عنه الليث بن سعد - وهو قرينه ونظيره في العلم، ولكنه لم يجد من يحمل عنه علمه - قال عنه: والله ما على وجه الأرض أحب إليَّ مالك، وعلم مالك علم نقي، ومالك أمان لمن أخذ به من الأنام.

وكان للإمام مالك منزلة رهيبة عند الناس تعدل، بل تفوق منزلة الخلفاء والأمراء والولاة، وكان مجلس درسه تحدوه السكينة والوقار والمهابة، لا يجرؤ فيه أحد على لغو أو لغط، وإذا سأل سائل فأجابه لم يسأل عن الدليل، ولا يطالب ببرهان، ولا يملك أحد أن يراجعه في جواب، حتى دخل على مجلسه يومًا أحد طلاب العلم الوافدين لسماع حديثه؛ فوحد مجلسًا عامرًا بالهيبة والسكينة، يعلوه الوقار فأنشد قائلا:
يدع الجواب فلا يراجع هيبة 
والسائلون نواكس الأذقانِ 
أدب الوقار وعزُّ سلطان التقى 
فهو المطاعُ وليس ذا سلطانِ! 

محنة الإمام مالك:
ولد مالك سنة 93، ومات سنة 179هـ: أي أنه أدرك بهذا العمر الطويل المبارك الدولتين الإسلاميتين: الأموية والعباسية، والتي كانت كل واحدة منهما تحكم باسم الخلافة، بينما الواقع أن كليهما كان مُلكًا عضوضًا، يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويعضون عليه بالنواجذ، وهذه الطريقة في الحكم كان لها كثير من المعارضين والمخالفين، بعضهم بلسانه وقلمه، والآخر بسيفه وترسه، وهذه المعارضة الأخيرة - يعني المسلحة - أخذت تتنامى شيئًا فشيئًا حتى قامت المعارضة العباسية بقلب الدولة الأموية، وإقامة دولتها مكانها؛ وذلك بعد ويلات وأهوال وشدائد ودماء مئات الآلاف التي تخضبت بها أرض خراسان والعراق والشام، وإن بقيت الحجاز بمنأى عن هذه الأحداث الملتهبة؛ فهي مستكينة، وتبع لمن غلب منذ أحداث الحرة الأليمة سنة 61هـ، هذه الأحداث المتلاحقة جعلت العباسيون يشتدون مع معارضيهم، حتى أنسوا الناس معنى العفو والصفح، فأدنى محاولة للخروج، أو التلويح به، أو حتى مجرد التلميح بالقول أو الفعل كان بنو العباس يقمعونها بمنتهى الشدة، ويأخذون البريء بالمذنب، والقاعد بالساعي، والبعيد بالقريب.

وبسبب هذه المضار والمفاسد العظيمة المترتبة على الخروج على الحكام لم ير مالك الخروج عليهم، وإن كانوا ظالمين وجائرين، هو مع ذلك لم يكن مداهنًا لخليفة ولا أمير، أو يكتم العلم من أجلهم، بل يلتزم معهم الحياد، فهو وإن كان يلزم الجماعة والطاعة، لا يرى أن سياسة السلطان في عصره هي الحق الصراح الذي يتفق مع أحكام الإسلام، وهدى القرآن، بل يرضى بالطاعة لأن فيها إصلاحًا نسبيًا؛ فكانت طريقته في الإصلاح حسب ما ارتآه ألا يناصر أحدًا عند الفتن، ورغم ذلك، ورغم كره الإمام مالك للثورات والتحريض عليها إلا إنه لم يسلم من آذاها.

فبعد أن ارتفعت مكانة ومنزلة الإمام مالك عند الخاصة والعامة، حتى جلس الخلفاء بين يديه، وقرأ الأمراء له، وأخذ الخلفاء بمشورته، وصدع الناس لما أمرهم به حسده على ذلك بعض أهل العلم ممن يؤثرون الدنيا، ويسعون إليها، ووشوا به عند أمير المدينة جعفر بن سليمان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور؛ وذلك سنة 147هـ، وكانت التهمة: أن مالكًا لا يرى أيمان البيعة للخلافة هذه بشيء.

ولكن هل قال مالك ذلك حقًّا؟
إن الذي أفتى به الإمام مالك رحمه الله أن يمين المكره لا تلزمه، وذلك  عملا بالحديث الموقوف على ابن عباس: ليس لمكره، ولا لمضطهد طلاق؛ وهو صحيح عن ابن عباس، ولا يصح رفعه، وقد علقه البخاري في كتاب الطلاق، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ليس على مستكره طلاق، ولم يكن سبب المحنة هو التحديث بهذا الحديث وحده، ولكن التحديث به وقت الفتن، واستخدام الثائرين لذلك الحديث، ولمكانة الإمام مالك العلمية تحريضًا الناس على الخروج على الخليفة؛ فلما بلغ الأمر السلطة الحاكمة أمر أبو جعفر المنصور الإمام مالكًا ألا يحدث الناس بهذا الحديث، وبهذه الفتوى، ونهاه عن ذلك بشدة، فلم يستجب مالك رحمه الله لهذه الضغوط، ولم يسكت؛ فقد كان يرى في السكون عنه كتمانًا للعلم الذي استودعه إياه الله عز وجل، وقد نهى الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن كتمان العلم، وتوعدا فاعلة بالنار.

ولعلم أبي جعفر المنصور أن الإمام مالك لن يسكت عن نشر العلم أمر  واليه على المدينة: جعفرًا بن سليمان أن يدس على مالك من يسأله عن هذا الحديث على رءوس الناس، وبالفعل أجاب مالك على المسألة، وروى حديث ابن عباس، وعندها أرسل جعفر بن سليمان من قبض على الإمام مالك، واحتج عليه بما رفع إليه عنه، فلم ينكر الإمام، ولم يخش في الله عز وجل لومة لائم، فأمر جعفر بتجريده من ملابسه، وضربه بالسياط، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه، وعذبه عذابًا شديدًا، وأهانه، وتعمد إسقاط هيبته ومنزلته بكل هذه الإساءات، ولكن الله عز وجل قد رفع قدر مالك بعد هذه المحنة، وازداد رفعة بين العالمين، وهذه ثمرة المحنة المحمودة؛ فإنها ترفع صاحبها عند المؤمنين.

عندما علم أهل المدينة بما جرى للإمام مالك اشتد سخطهم على الوالي، وتطاولوا عليه، بل وعلى الخليفة نفسه، خاصة وأن مالكًا قد أصيب في هذه المحنة بعجز كبير في ذراعه: بحيث لم يقدر بعدها على رفعها إلا بمساعدة ذراعه الأخرى، وقد جلس في بيته، وشعر الخليفة أبو جعفر المنصور بمرارة ما فعل؛ فأرسل إلى الإمام مالك يعتذر إليه، ويتنصل مما فعله واليه، ولما جاء أبو جعفر إلى الحجاز حاجًا أرسل إلى مالك، واجتمع معه، وبالغ له في الاعتذار؛ وذلك كله لتطييب خاطر العامة أولا، ثم الإمام ثانيًا، وإلا فجميع ما وقع بعلمه وبأمره. والله أعلم.

في هذه المحنة اختلفت النظرة إلى الحديث بين الإمام مالك العالم التقي  الرباني، قدوة الناس وفقيههم، ومرشدهم عند النوازل والحاجات، والذي يمثل طبقة العلماء، وبين الحكام الذين يمثلون طبقة أولى الأمر، التي لها حق السمع والطاعة، فرأى مالك في إذاعة الحديث نشرًا للعلم، وتبصيرًا للناس، فلم يكتمه إرضاء للحكام، ولا لأي سبب مهما كان.

ورأى الحكام في إذاعته تحريضًا على الفتنة والثورة؛ لأن فيه بيانًا ببطلان بيعة الخليفة، وصادف ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن العلوي الملقب بالنفس الزكية على المنصور، ومطالبته بالخلافة لنفسه، وكان في المدينة، وذلك سنة 146هـ.

ومهما يكن من مبررات الخليفة، والتي ساقها من أجل منع الإمام من التحديث يبقى ثبات الإمام مالك، وجهره بالحق، وصبره على الضرب والتجريد والإهانة علامة فارقة في حياة الإمام؛ إذ ضرب لعلماء الأمة كلهم مثالا يحتذى به في الصبر والثبات نسج على منواله الأئمة من بعده: مثل الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ممن ابتلوا في ذات الله، وصبروا على الحق، وجهروا بالعلم، ورفعهم الله عز وجل بذلك لأعلى الدرجات بين العالمين.

المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (8/ 48).
• البداية والنهاية: (10/ 188).
• الكامل في التاريخ: (5/ 306).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 207).
• الديباج المذهب: (1/ 55).
 النجوم الزاهرة: (2/ 97).
• شذرات الذهب: (2/ 12).
• وفيات الأعيان: (4/ 135).
• صفة الصفوة: (1/ 396)
• الإمام مالك بن أنس: إمام دار الهجرة - لعبد الغني الذقر.
 تراجم أعلام السلف: (223).
 الإمام مالك: حياته وآراءه وفقهه - الدكتور/ محمود عبد المتجلي.

هناك تعليقان (2):

جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).

يتم التشغيل بواسطة Blogger.